تحديات و سيناريوهات- مستقبل الإيكواس بعد انسحاب دول الساحل

في خضم الأحداث المتسارعة التي تشهدها منطقة غرب أفريقيا، انعقدت قمة استثنائية للجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس" في أبوجا، نيجيريا، في السابع من الشهر الجاري. اكتسبت هذه القمة أهمية بالغة نظرًا لتوقيتها الحساس، إذ جاءت بعد يوم واحد فقط من اجتماع قادة الانقلاب في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، حيث أعلنوا عن عزمهم على تشكيل اتحاد كونفدرالي تحت مسمى "تحالف دول الساحل". كما أكدوا قرارهم السابق في يناير/كانون الثاني الماضي بالانسحاب الفوري من الإيكواس.
هذا القرار يمثل تحديًا جسيمًا لإيكواس، المنظمة الإقليمية البارزة التي حققت إنجازات ملحوظة في المجال الاقتصادي. من أهم هذه الإنجازات تسهيل حرية تنقل الأفراد والبضائع بين الدول الأعضاء الـ 15 من خلال جواز سفر موحد. كما أن إيكواس تعتبر أول منظمة أفريقية تولي اهتمامًا خاصًا للبعد الأمني وأهميته في تحقيق الاستقرار الاقتصادي المنشود.
وقد بادرت إيكواس بصياغة بروتوكولات أمنية هامة، مثل اتفاقية عدم الاعتداء عام 1978، والمساعدة الجماعية في حالة الدفاع عام 1981. ثم قامت باستحداث آلية لمنع وإدارة وتسوية الصراعات وحفظ السلام والأمن عام 1999، والتي نصت على توسيع نطاق تدخل قوات المنظمة في الصراعات الداخلية في حالات التهديد بوقوع كارثة إنسانية، أو أعمال العنف التي تنتهك حقوق الإنسان وحكم القانون بشكل صارخ، أو الإطاحة بحكومة منتخبة ديمقراطيًا.
وقد أسهمت قوات إيكواس المتدخلة في تسوية العديد من الصراعات والحروب الأهلية في دول مثل ليبيريا، وسيراليون، وغينيا بيساو في تسعينيات القرن الماضي، وساحل العاج بين عامي 2002 و2010، ومالي عام 2013، وغامبيا عام 2016. وبحلول عام 2017، شهدت جميع الدول الأعضاء في المنظمة حكومات دستورية بقيادة مدنية.
إن الانسحاب الثلاثي الأخير يثير تساؤلين جوهريين: أولهما، يتعلق بالتحديات المترتبة على هذا الانسحاب، وثانيهما، يستشرف مستقبل المنظمة والسيناريوهات المحتملة للتعامل مع هذه الأزمة الراهنة.
تحديات أساسية
من المؤكد أن انسحاب الدول الثلاث من إيكواس يضع المنظمة في مواجهة ثلاثة تحديات رئيسية: أمنية واقتصادية واجتماعية. وقد لخص رئيس مفوضية إيكواس، عمر توراي، هذه التحديات بوضوح خلال القمة الأخيرة، مشيرًا إلى أن حرية الحركة والسوق المشتركة التي تضم 400 مليون نسمة، باتت مهددة في حال انسحاب الدول الثلاث. كما أن تمويل المشروعات الاقتصادية التي تزيد قيمتها على 500 مليون دولار في بوركينا فاسو ومالي والنيجر قد يتوقف.
هذا الانسحاب سيؤدي إلى إلغاء اتفاقية التجارة الحرة وحرية انتقال السلع والخدمات والعمل بدون تأشيرة، وإعادة الحواجز الجمركية بين دول المنظمة ودول الساحل الأفريقي. كما سيؤثر سلبًا على اقتصادات دول الساحل الأفريقي التي تعتمد بشكل كبير على الواردات، خصوصًا أنها دول حبيسة. بالإضافة إلى ذلك، سيعرقل جهود إيكواس كمنظمة في سعيها لإيجاد عملة بديلة للفرنك الفرنسي الأفريقي، الذي تتعامل به ثماني دول في المنظمة "الدول الفرانكفونية"، في حين تستخدم بقية الدول عملاتها الوطنية.
وفي هذا السياق، دارت مناقشات داخل المنظمة حول إنشاء منطقة نقدية متكاملة تستخدم عملة موحدة هي "إيكو". ولا شك أن انسحاب الدول الثلاث "وهي فرانكفونية"، وبحثها عن عملة بديلة موحدة، سيؤدي إلى ظهور ثلاث مناطق نقدية داخل المنظمة الواحدة، مما قد يعيق عملية التكامل الاقتصادي المنشودة. تجدر الإشارة إلى أن أكثر من نصف الدول الأعضاء في المنظمة، بما في ذلك الدول الثلاث، تصنف ضمن الدول ذات الدخل المنخفض وفقًا لبيانات البنك الدولي للعام الماضي، بينما تقع بقية الدول في خانة الدول ذات الدخل المتوسط المنخفض.
وفيما يتعلق بالتحدي الأمني، فقد أكد رئيس المفوضية أن انسحاب الدول الثلاث سيمثل ضربة قوية للتعاون الأمني، ولا سيما تبادل المعلومات الاستخباراتية والمشاركة في الحرب على الإرهاب.
ومن المعروف أن منطقة غرب أفريقيا، وتحديدًا هذه الدول الثلاث، تشهد تصاعدًا في عمليات الجماعات المسلحة بعد الانقلابات الأخيرة، وأصبحت أوضاعها غير المستقرة تهدد دول الجوار الأعضاء في إيكواس. وقد باتت المنطقة بصفة عامة تحتل المرتبة الأولى عالميًا في العمليات المسلحة. لذا، فإذا كان موضوع الإرهاب أحد أسباب خروج هذه الدول من تجمع الساحل الذي أقامته فرنسا قبل نحو عقد من الزمن، فإنه بات يشكل تحديًا لها ولدول المنظمة بعد الفراغ الذي أحدثه انسحابها مؤخرًا.
أما بالنسبة للتحدي الاجتماعي، فقد أوضح رئيس المفوضية أنه قد يتم فرض إجراءات جديدة تلزم مواطني هذه الدول الثلاث بالحصول على تأشيرات لدخول دول أخرى في المنطقة. وهذا سيشكل تحديًا اجتماعيًا واقتصاديًا على حد سواء، في ظل وجود العديد من الإثنيات الممتدة في أكثر من دولة، مما قد يعرقل حركة تنقلها ويزيد من تكاليفها.
بدائل وسيناريوهات
هذه التحديات المتشعبة تفرض تساؤلات حيوية حول البدائل والسيناريوهات المتاحة أمام المنظمة للتعامل مع قضية الانسحاب المعقدة.
السيناريو الأول: يتمثل في السعي الحثيث لعودة هذه الدول الثلاث إلى حضن المنظمة. ويمكن تحقيق ذلك عبر جهود الوساطة الدبلوماسية، حيث كلفت المنظمة رئيسي السنغال وتوغو بالقيام بهذه المهمة، نظرًا لعلاقاتهما الوثيقة مع المجالس العسكرية في دول التّحالف، بهدف إقناعهم بالرجوع إلى المنظمة. وفي هذا السياق، يمكن للمنظمة "عبر الوسطاء" اتخاذ خطوتين:
الأولى: إعادة النظر في الشروط التي وضعتها المنظمة للمجالس العسكرية في دول التحالف، بما في ذلك الفترة الانتقالية القصيرة، وعدم ترشح قادة الانقلابات في الانتخابات القادمة. هذه الشروط قد تزيد من تصلب مواقف القائمين على هذه الانقلابات، وتسببت في تأجيل الانتخابات التي كان من المقرر إجراؤها في مالي وبوركينا فاسو في مارس/آذار ويوليو/تموز من هذا العام وفقًا لترتيبات إيكواس. وينطبق الأمر ذاته على الفترة الانتقالية، حيث تم تمديدها في بوركينا فاسو لمدة خمس سنوات أخرى تنتهي في عام 2029، مع النص على حق الرئيس العسكري الانتقالي إبراهيم تراوري في الترشح.
وهو الأمر نفسه في مؤتمر الحوار الوطني في مالي، والذي طالب بتمديد الفترة الانتقالية لمدة ثلاثة أعوام أخرى تنتهي عام 2027، مع أحقية رئيس المجلس العسكري آسيمي غويتا في الترشح في الانتخابات. في المقابل، لم يحدد قادة انقلاب النيجر حتى الآن موعدًا للفترة الانتقالية وبالتالي الانتخابات.
لكن هناك مخاوف مشروعة من أن يؤدي ذلك إلى تشجيع العسكريين على تجاهل قواعد الديمقراطية في بقية الدول الأعضاء، تمامًا كما حدث في النيجر، عندما تراجعت إيكواس عن شرط إعادة الرئيس المخلوع محمد بازوم إلى الحكم، حيث لم يقم العسكريون بإطلاق سراحه حتى الآن. ويمكن التوصل إلى حل وسط من خلال تمديد معقول للجداول الزمنية الحالية للفترة الانتقالية، بما في ذلك في النيجر، مع تحديد واضح للخطوات التالية، وتعهد إيكواس بالمساعدة في تحقيق أهداف المرحلة الانتقالية وَفق الإطار الزمني الجديد.
الثانية: يتعين على المنظمة تكثيف جهودها في مجال مكافحة الإرهاب عبر تفعيل المبادرة التي تمت الموافقة عليها في نهاية عام 2022. وقد أعلنت إيكواس قبل شهرين عن توفير الترتيبات اللازمة لهذه القوات في مدينة لونجي بسيراليون، والاتفاق على خطط لتعبئة قوة احتياطية إقليمية لمكافحة الإرهاب قوامها 5000 فرد، مع تخصيص 2.4 مليار دولار لها، تقوم الدول الأعضاء بتوفير مليار دولار منها في البداية.
وبالتالي، يمكن من خلال هذه الآلية تعزيز جهود مكافحة الإرهاب في محاولة لكسب تأييد هذه الدول من جديد، خاصة أن الانتقادات السابقة كانت موجهة إلى إيكواس وفرنسا معًا بسبب عدم كفاءتهما في مواجهة الإرهاب، وكان ذلك أحد الأسس التي استندت إليها الزمرة العسكرية في الدول الثلاث لتبرير خروجها من إيكواس.
السيناريو الثاني: يتمثل في قيام المنظمة بالتصعيد ضد هذه الدول الثلاث، خشية قيام قيادات عسكرية في دول أخرى باتخاذ إجراءات مماثلة، مما قد يؤدي إلى انهيار المنظمة وتفككها. وتستند هذه الخطوة إلى الاعتقاد بأن التحالف الثلاثي الجديد قد ينهار سريعًا بسبب ضعف الأسس التي يقوم عليها، فضلًا عن التحديات الأمنية التي تواجه دوله، والتي لم تفلح في وقف العمليات الإرهابية في ظل تحالف هذه الدول مع فرنسا وأوروبا وفي وجود مظلة من مجلس الأمن.
وكذلك التحديات الاقتصادية، فهي دول حبيسة ذات دخل منخفض، وتحتاج للتعامل مع العالم الخارجي تصديرًا واستيرادًا، ناهيك عن التحديات الاجتماعية المتعلقة بانتقال المواطنين لدول الجوار.
وفي ظل هذا السيناريو، يمكن أن تتخذ المنظمة عدة خطوات:
الأولى: الاستمرار في فرض العقوبات الاقتصادية على الدول الثلاث، مع إمكانية إعادة فرض العقوبات التي تم رفعها جزئيًا عن النيجر، والتي قد تؤثر بشكل كبير على اقتصاد هذه الدول المتأزم أصلًا. ووفقًا لمجموعة دخل البلدان التابعة للبنك الدولي لعام 2023، تقع هذه الدول الثلاث ضمن فئة الدول الأقل دخلًا.
كما أن كونها دولًا حبيسة يفاقم من معاناتها الاقتصادية، وإمكانية خنق هذه النظم اقتصاديًا، وهو ما قد يتسبب مع استمرار الهجمات المسلحة في مزيد من تدهور الأوضاع بها. وقد أدى وقف نيجيريا على سبيل المثال تزويد النيجر بالكهرباء بعد الانقلاب إلى دخول البلاد في ظلام دامس في ظل اعتمادها بنسبة 70% على كهرباء نيجيريا.
الثانية: إمكانية فرض قيود التأشيرة على دخول مواطني هذه الدول إلى دول المنظمة، ما يعني حرمانها من سبل العيش من ناحية، فضلًا عن إمكانية قطع الروابط الإثنية لهذه الدول الثلاث مع دول الجوار.
الثالثة: تفعيل الإطار المؤسسي لإيكواس، خاصة ما يتعلق بالتصديق على بروتوكولها بشأن الديمقراطية والحكم الرشيد الذي تمّ التوقيع عليه في ديسمبر/كانون الأول 2001، والذي يحظر الإطاحة بالنظم المنتخبة، لكنه لم يدخل حيز النفاذ حتى الآن، لأنه يتطلب تصديق تسع دول عليه.
لقد أظهرت القيادة السنغالية الجديدة التزامًا جادًا بإصلاح منظمة الإيكواس، ومن خلال تسليط الضوء على المخاطر المترتبة على الانقلابات العسكرية، يمكنها إقناع القادة الآخرين بالتصديق على البروتوكول.
الرابعة: توثيق المنظمة العلاقةَ مع فرنسا والولايات المتحدة كخيار أخير لمواجهة النفوذ الروسي المتزايد الداعم لهذه الدول الثلاث، لاسيما ما يتعلق بجهود مكافحة الإرهاب وتعزيز عمل قوة الإرهاب الجديدة المعلن عنها مؤخرًا، فضلًا عن استغلال النفوذ الأميركي والفرنسي في المؤسسات الاقتصادية العالمية كالبنك والصندوق الدوليين، لمنع تدفق المساعدات إلى هذه الدول الثلاث.
لا شك أن إيكواس تقف الآن في مفترق طرق حاسم، وتواجه تحديات جمة، والتعامل معها بنجاح يضمن لها الاستمرار والبقاء، أما الفشل في مواجهتها، فقد يؤدّي إلى ضعفها وتدهورها، ثم انهيارها لاحقًا، وهو الأمر الذي ستكون له تداعياته السلبية على باقي المنظمات الإقليمية في القارة، خاصة في وسطها وشرقها.
وبالتالي، ستعود ظاهرة الانقلابات والتراجع الديمقراطي في دول القارة من جديد، مما قد يؤثر كذلك على فاعلية الاتحاد الأفريقي الذي يرفض ميثاقه التغييرات غير الدستورية عبر الانقلابات، لكن يبدو أنه بات يكتفي بتعليق عضوية الدول التي تشهد هذه الانقلابات في مؤسساته لحين قيام قادة الانقلابات بإجراء انتخابات جديدة تكرس حكمهم في صورة مدنية بعد خلعهم البزة العسكرية تحت مرأى ومسمع من الجميع!